عدد ركعات صلاة التراويح
(وهل صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة بدعة وهابية؟)

إنَّ عدَدَ ركعات صلاة التراويح مما غلا فيه بعض الناس بين إفراط وتفريط، والمسلم يحرص في قيام رمضان أن يقومه إيمانًا واحتسابًا، فلا ينهج في ذلك سوى المنهج اللاحب الذي دلت عليه الأدلة الشرعية.
فـ”لا ينبغي لنا أنْ نغلوَ أو نُفَرِّطَ، فبعضُ النَّاس يغلو من حيث التزامُ السُّنَّة في العدد، فيقول: لا تجوز الزيادة على العدد الذي جاءت به السُّنَّةُ، وينكرُ أشدَّ النَّكير على مَن زادَ على ذلك، ويقول: إنه آثمٌ عاصٍ. وهذا لا شَكَّ أنَّه خطأ.
والطَّرف الثاني: عكس هؤلاء، أنكروا على مَن اقتصر على إحدى عشرة ركعةً إنكارًا عظيمًا، وقالوا: خرجت عن الإجماع وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فكلُّ مَن قبلك لا يعرفون إلا ثلاثًا وعشرين رَكعةً، ثم يشدِّدون في النَّكير، وهذا أيضًا خطأ”([1]).
وفي هذا السياق الغالي: زعم بعض المناوئين لمنهج السلف أن صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة بدعةٌ وهابية، وجنح إلى جانب الإفراط في مسألة عدد ركعات رمضان، فزعم أن صلاةَ العشرين ركعة لم يُخَالِف فيها إلا الوهابية، وتعجَّبَ من كون أتباع الوهابية يصلونها عشرين ركعة في الحرمين الشريفين، ثم يأتون إلى مصر ويصلون ثماني ركعات، حتى صار هذا هو الأصل، وجعل ذلك مما يغيظ؛ لأن صلاة ثماني ركعات بدعة بحسب زعمه، وصلاة عشرين ركعة هي السنة، فصارت البدعة هي الأصل والسنة صارت هي الفرع، وما بقي في مصر من يصلي عشرين ركعة إلا بعض المساجد، كالجامع الأزهر، وجامع عمرو بن العاص، ومساجد قليلة جدًّا، والباقي كلّهم على ثماني ركعات، وهذا مما يدل على أن السلفيين نشروا بدعتهم بشكلٍ كبير -حسب تعبيره-!!
وفي هذا المقال نذكر الأدلة على مشروعية صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة، ونذكر كلام العلماء من المذاهب الأربعة وغيرها في الاستدلال بها موثَّقًا محرَّرًا، ونبيّن بطلان دعوى أن الوهابية هم من ابتدعوا صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة بعون الله وتوفيقه.
الأدلة على مشروعية صلاة التراويح إحدى عشرة ركعة:
1- فِعلُ النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان:
عَنْ ‌أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: ‌مَا ‌كَانَ ‌رَسُولُ ‌اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ! فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي»([2]).
وقد بوّب البيهقي لهذا الحديث بقوله: (‌‌بَابُ مَا رُوِيَ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ الْقِيَامِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ)([3])، وبَيَّن الشيخ كمال الدين الدميري الشافعي في عرضه للأقوال في عدد صلاة التراويح في شرحه لكتاب «منهاج الطالبين» للإمام النووي أن هذا الحديث هو حجة من ذهب من أهل العلم إلى أن التراويح إحدى عشرة ركعة فقال: “وقال مالك: التراويح إحدى عشرة ركعة بالوتر، واختاره الجُورِي من أصحابنا، وهو مذهب داود؛ لقول عائشة رضي الله عنها: (ما زاد صلي الله عليه وسلم في رمضان ولا غيره على ذلك)”([4]).
وقال أبو بكر ابن العربي المالكي: “والصحيح: أن يصلي إحدى عشرة ركعة: صلاةَ النبي عليه السلام وقيامَه، فأما غير ذلك من الأعدد فلا أصل له ولا حَدَّ فيهِ، فإذا لم يكن بد من الحد فما كان النبي عليه السلام يصلي: ما زاد النبي عليه السلام في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، وهذه الصلاة هي قيام الليل، فوجب أن يُقتدى فيها بالنبي عليه السلام”([5]).
وما كان فيه اقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بدعةً.
2- فعلُ عُمَر بنِ الخطاب رضي الله عنه:
عَنْ ‌مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، عَنِ ‌السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَرَ ‌عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّيْرِيَّ أَنْ يَقُومَا لِلنَّاسِ بِإِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً. قَالَ: وَقَدْ كَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِئِينَ حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلا فِي فُرُوعِ الْفَجْرِ([6]).
قال ابن المُلَقِّن بعد هذه الرواية: “وهي موافقة لرواية عائشة رضي الله عنها في عدد قيامه في شهر رمضان وفي غيره”([7]).
وقال الإمام محمد بن إسحاق: “وما سمعتُ في ذلك حديثًا هو أثبتُ عندي ولا أحرى بأن يكُونَ كان من حديثِ السائب، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له من الليل ثلاث عشرة ركعة”([8]).
وقال الإمام مالك في «مختصر ما ليس في المختصر»: “الذي يأخذ بنفسي في ذلك الذي جمع عليه عمر رضي الله عنه الناس ‌إحدى ‌عشرة ‌ركعة بالوتر، وهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإحدى عشرة ركعة من ثلاث عشرة ركعة قريب”([9]).
ونقل هذا القولَ عن الإمام مالك الجُوريُّ وهو من فقهاء الشافعية، ولفظه: “الذي جمع عليه الناس عمر بن الخطاب أحبُّ إليَّ وهو إحدى عشرة ركعة بالوتر، وهي صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له: إحدى عشرة ركعة بالوتر؟ قال: نعم، وثلاث عشرة قريب، قال: ولا أدري من أين أُحدِث هذا الركوع الكثير”([10]).
وهذان النقلان عن محمد بن إسحاق والإمام مالك يدلان على أخذهما بإحدى عشرة ركعة استنادًا إلى فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه المستند إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان كذلك لا يكون بدعةً.
3- أن الأمرَ في عدَدِ ركعات التراويح واسِعٌ:
جاء في رواية الزعفراني عن الإمام الشافعي: “‌رأيتُ ‌النَّاسَ ‌يقومُونَ بالمدينة تسعًا وثلاثينَ ركعةً([11]) قال: وأحبُّ إلي عشرون”. قال: “وكذلك يقومون بمكة”. قال: “وليس في شيء من هذا ضيق ولا حد ينتهي إليه؛ لأنَّهُ نافلة، فإن أطالُوا القيام وأقلُّوا السجود فحسن، وهو أحبُّ إلي، وإن أكثروا الركوع والسجود فحَسَنٌ”([12]).
وقال إسحاق بن منصور الكوسج للإمام أحمد: كم من ركعة يصلي في قيام شهر رمضان؟ قال: “قد قيل فيه ألوان، يروى نحوًا من أربعين، إنما هو تطوّع“([13]).
وقال الجُوري الشافعي: “إن عَدَد الرَّكعات في شهر رمضان لا حَدَّ لهُ عندَ الشافعي لأنه نافلة“([14]).
وقال ابنُ أبي زيد القيرواني: “وكان السَّلَفُ الصالح يقومُون فيه في المساجد بعشرين ركعة، ثم يوتِرُون بثلاثٍ ويَفصلون بين الشفع والوتر بسلام، ثم صلَّوا بعد ذلك ستًّا وثلاثين ركعة غير الشفع والوتر، ‌وكل ‌ذلك ‌واسع“([15]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “نفسُ قيام رمضان لم يُوَقِّتِ النبي صلى الله عليه وسلم فيه عددًا مُعيَّنًا؛ بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيدُ في رمضان ولا غيرِه على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يُطيلُ الركعات، فلما جمعهم عمرُ على أُبَيّ بن كعب كان يُصلِّي بهم عشرين ركعة، ثم يُوتِر بثلاث، وكان يخفّ القراءة بقدر ما زاد من الركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفةٌ من السلف يقومون بأربعين ركعة، ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين وأوتروا بثلاث، وهذا كُلُّه سائغ، فكيفَمَا قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن.
والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين؛ فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين([16])، فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين.
وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك، ولا يكره شيء من ذلك.
وقد نصَّ على ذلك غير واحد من الأئمة كأحمد وغيره، ومن ظنَّ أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يُزادُ فيه ولا يُنقَصُ منه فقد أخطأ“([17]).
وقال ابن مفلح: “وتُسَنُّ التراويح في رمضان: عشرون ركعة… ولا بأس بالزيادة، نصَّ عليه، وقال: رُوي في هذا ألوان، ولم يقض فيه بشيء. وقال شيخُنا: إن ذلك كله أو إحدى عشرة أو ثلاث عشرة حسنٌ، كما نصَّ عليه أحمدُ لعدمِ التوقيت، فيكون تكثيرُ الرَّكعاتِ وتقليلُها بحسب طول القيام وقصره”([18]).
وقال التقيُّ السُّبكيُّ بعد أن ذكر اختلاف الروايات عن عمر رضي الله عنه في عدد ركعات التراويح هل هي إحدى عشرة أو عشرون: “إلا أنَّ هذا أمرٌ يسهلُ الخلافُ فيه؛ فإن ذلك من النوافل، من شاء أقلَّ ومَن شاء أكثَر، ولعلهم في وقتٍ اختاروا تطويل القيام على عدد الركعات فجعلوها إحدى عشرة، وفي وقت اختارُوا عدد الركعاتِ فجعلوها عشرين، وقد استَقَرَّ العملُ على هذا”([19]).
فأنت ترى أن القول بمشروعية القيام بإحدى عشرة ركعة في رمضان يستند إلى تقريرات جمع من الأئمة بسَعَةِ الأمر في عدد الركعات في التروايح، والقول ببدعية الإحدى عشرة ركعة ينافي تلك التقريرات.
والقول بمشروعية الإحدى عشرة ركعة لا يلزم منه القول بعدم مشروعية ما زاد عليها كما ذهب إليه الشيخ الألباني رحمه الله، والتقريرات المذكورة ردٌّ عليه وعلى كل من قال ببدعية الزيادة، كما أنها أيضًا ردٌّ على القائلين ببدعية الإحدى عشرة ركعة.
اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبعض أئمة الدعوة في هذه المسألة:
سئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله عن عدد التراويح، فأجاب: “الذي أستحبُّ أن تكون عشرين ركعة”.
وأجاب ابنه الشيخ عبد الله: “الذي ذكره العلماء -رحمهم الله- أن التراويح عِشرُون رَكعة، وأن لا ينقصَ عن هذا العدد، إلا إن أراد أن يزيدَ في القراءة بقدر ما ينقص من الركعات؛ ولهذا اختلف عمل السلف في الزيادة والنقصان، وعمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أبي بن كعب صلى بهم عشرين ركعة”.
وأجاب الشيخ عبد الله أبا بطين: “وأما صلاة التراويح أقل من العشرين فلا بأس، والصحابة رضي الله عنهم منهم من يقلّ، ومنهم من يكثر؛ والحد المحدود لا نصّ عليه من الشارع صحيح“([20]).
وفي فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى (2/245-246): (ذهب أَكثر أَهل العلم كالإِمام أَحمد والشافعي وأَبي حنيفة إِلى أَن صلاةِ التراويح عشرون ركعة؛ لأَن عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أُبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، وكان هذا بمحضر من الصحابة، فيكون كالإِجماع، وعلى هذا عمل الناس اليوم الآن. فلا ينبغي الانكار عليهم بل يتركون على ما هم عليه؛ لأَنه قد ينشأ من الإِنكار عليهم وقوع الاختلاف والنزاع وتشكيك العوام في سلفهم، ولا سيما في هذه المسأَلة التي هي من التطوع، والأَمر فيها واسع، وزيادة التطوع أَمر مرغوب فيه ولا سيما في رمضان لحديث ((أَنَّ رَجُلاً قال يَا رَسُوْل اللهِ أَسْأَلُك مُرَافقتك فِيْ الْجَنَّةِ الَ فَأَعِنِّيْ عَلَى نَفسِكَ بكثرَةِ السُّجُوْدِ)).
وإِذا كان من عادة أَهل بلد فعل صلاة التراويح على وجه آخر مما له أَصل شرعي فلا وجه للإِنكار عليهم أَيضًا. والمقصود من ذلك كله هو البعد عن أَسباب الشقاق والنزاع في أَمر فيه سعة.
وقد لاحظ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا وترك أَمرًا عظيمًا مخافة ما يقع في قلوب الناس، كما جاء في حديث عائشة ((لوْلا حِدثان قومِكِ بالإِسلام)) الحديث وترجم البخاري في هذا المعنى فقال (باب من ترك بعض الاختيار مخافة أَن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أَشد منه) وساق حديث عائشة ((لولا حِدْثان قوْمِكِ بالإِسْلام لنقضتُ الْكعْبَة فجعَلتُ لها بَابَيْن)) الحديث .
وقال علي: حدثوا الناس بما يعرفون أَتحبون أَن يكذب الله ورسوله. وفي رواية: ودعوا ما ينكرون. وقال ابن مسعود: الخلاف شر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أَجمعين)..
وقال الشيخ ابن باز: “ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: ظنُّ بعضِهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة، وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهذا كله ظنّ في غير محلّه، بل هو خطأ ‌مخالف ‌للأدلة. وقد دلت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن صلاة الليل موسَّع فيها، فليس فيها حد محدود لا تجوز مخالفته، بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلّي من الليل إحدى عشرة ركعة، وربما صلى ثلاث عشرة ركعة، وربما صلى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره”([21]).
توجيه نصّ فقهاء الحنابلة على العشرين:
حملَ بعضُ أهل العلم من الحنابلة نصَّ المصنِّفِين على أن التراويح عشرون ركعة على أفضلية العشرين، لا على كراهة الزيادة أو النقصان عنها، قال ابن مُفلِح عند قول الشيخ مجد الدين ابن تيمية رحمه الله في «المحرر»: (وسنة التراويح عشرون ركعة): “مرادُه -والله أعلم- أن هذا هو الأفضل، لا أنَّ غيرَه من الأعداد مكروه، وعلى هذا كلام الإمام أحمد، فإنَّهُ قالَ: لا بأسَ بالزيادة على عشرين ركعة، وكذا ذكر الشيخ تقي الدين: أنه لا يُكرَه شيء من ذلك، وأنه قد نصَّ على ذلكَ غيرُ واحدٍ من الأئمة؛ كأحمَدَ وغيرِه، قال: والأفضلُ يختلِفُ باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمالٌ لطُول القيامِ فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها هو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملون فالقيام بعشرين هو الأفضل. وقد روى الإمامُ أحمدُ ما يدل على التخيير في الأعداد المروية، وقد يدلُّ لما اختارَه الشيخُ تقيُّ الدين، فإنَّهُ قال: رُوِي في هذا ألوان، ولم يقض فيه بشيء. وقال عبدُ الله: رأيتُ أبي يُصلِّي في رمضان ما لا أُحصِي”([22]).
أي الفريقين أحقّ بالأمن؟
إن التعصُّبَ الأعمى قد جعل هذا المخالف يشتكي من انتشار القول بصلاة التراويح إحدى عشرة ركعة بين الناس، وجعل ذلك مما يغيظ، ولوّح بأن في ذلك تغييرًا للمذاهب المستقرة في بلدان المسلمين، وغفل عن بدعٍ وأخطاء كثيرة يقع فيها المسلمون اليوم في بلدانهم في رمضان وغير رمضان، هي منكرةٌ في مذهب الشافعي وغير الشافعي!
ونحبّ أن نختم بكلامٍ للشيخ ابن عثيمين رحمه الله بيّن فيه تلاعبَ كثير من الأئمة ممن يصرون على القيام بعشرين ركعة دون أن يعطوا الصلاة حقَّها من الإقامة بخشوع وطمأنينة، كما بيَّن فيه استعمال أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة في دعوة الناس إلى ما يراه طالبُ العلم سنةً، قال رحمه الله: “ولكن لو فرضنا أننا في بَلدٍ لا يعرفون إلا ثلاثًا وعِشرين رَكعةً، فليس مِن الحكمة أنْ نجابههم، فنصلِّي إحدى عشرة ركعة مِن أوَّلِ ليلة، وإنما نُصلِّي ثلاثًا وعشرين رَكعةً، ثم نتحدَّث إليهم بما جاءت به السُّنَّة، وأنَّ الأفضلَ إحدى عشرة، ثم يُقال: ما ترون؟ هل يقتصر على هذا العدد مع الطُّمأنينة وإطالةِ الرُّكوع والسُّجود نوعًا ما؛ لنتمكَّن مِن الدُّعاء ونُكثِرَ مِن الذِّكْرِ، أو أنْ نبقى على حالنا؟ فحينئذٍ سوف يوافقون، أو يخالفون، أو يختلفون. فلا تخلو الحال مِن واحد مِن ثلاثة أمور.
فإذا رأى أنَّ الأكثرَ على عدم الموافقة بقي على ما هو عليه؛ لأنَّ الأمرَ واسع، وما دام الأمرُ فيه التأليف فهو خير، لكن لا ييأس؛ يعيد الكَرَّة مَرَّة ثانية، فإن أبوا وأصرُّوا على الثلاث والعشرين يستعمل معهم ما يراه مِن الحِكمة في إقناعهم.
ومع هذا لو أنهم أبوا إلا ثلاثًا وعشرين فليتوكَّل على الله، وليُصلِّ بهم ثلاثًا وعشرين، لكن ليحذر مما يصنعُه بعضُ الأئمة مِن السُّرعة العظيمة في الرُّكوع والسُّجود، حتى إنَّ الواحد لا يتمكَّن -وهو شابٌّ- مِن متابعة الإمام، فكيف بكبير السِّنِّ أو المريض أو ما أشبه ذلك؟! وقد حدثني مَن أثقُ به أنه دخل مسجدًا في ليلة من ليالي رمضان، ودخل مع الإمام في صلاة التَّراويح، وعَجَزَ عن إدراك المتابعة وهو نشيطٌ شابٌّ، يقول: فلما نمتُ في الليل رأيت كأنِّي دخلت على هذا المسجد، وإذا أهلُه يرقصون.
والقصد مِن هذا: أنَّ بعضَ الأئمة -نسأل الله لنا ولهم الهداية- يتلاعبون في التَّراويح، فيصرُّون على العدد ثلاث وعشرين، والسُّنَّة إحدى عشرة ركعةً، ويقصِّرُون في الواجب بالسُّرعة العظيمة، والعلماءُ -رحمهم الله- يقولون: يُكره للإمام أنْ يُسرعَ سرعةً تمنع المأموم فِعْلَ ما يُسَنُّ. وعليه يَحرمُ أنْ يُسرعَ سرعة تمنعُ المأمومَ فِعْلَ ما يجب؛ لأنَّه مؤتمن، والأمين يجب أنْ يُراعي حال المؤتمن عليه”([23]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كتبه محمد براء ياسين
ليلة الخميس
6/رمضان المبارك/1443هـ
4/7/2022م

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الهوامش)
([1]) من كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (4/ 53-54) باختصار.
([2]) أخرجه البخاري (1147)، ومسلم (738).
([3]) السنن الكبرى (2/ 698).
([4]) النجم الوهاج (2/ 310-311).
([5]) عارضة الأحوذي (2/ 16).
([6]) رواه الإمام مالك (379) عن محمد بن يوسف به، ومن طريقه الطحاوي في شرح معاني الآثار (1/ 293)، والبيهقي في الكبرى (4287). وقد تابع مالكًا الإمام يحيى بن سعيد القطان، أخرجه من طريقه ابن أبي شيبة (7671)، وتابعه أيضًا عبد العزيز الدَّرَاوِرْدي، أخرجه من طريقه ابن منصور كما ذكره السبكي في الابتهاج في شرح المنهاج، وابن حجر في فتح الباري.
وهذا السند في غاية الصحة كما قال السُّبكي، وقال: “ومال ابن عبد البر إلى رواية: (ثلاث وعشرين بالوتر)، وأن رواية مالك في إحدى عشرة وَهم، وقال: (إن غيرَ مالك يخالِفُه ويقول: إحدى وعشرين)، قال: (ولا أعلمُ أحدًا قال في هذا الحديث: إحدى عشرة ركعة غير مالك). قلتُ: وكأنَّهُ لم يقِف على مصنف سعيد بن منصور في ذلك، فإنه رواها كما رواها مالك عن عبد العزيز بن محمد عن محمد بن يوسف شيخ مالك؛ فقد تضافر مالك وعبد العزيز الدَّرَاورْدي على روايتها”. رسالة علمية محققة من الجامعة الإسلامية فيها قطعة من الابتهاج في شرح المنهاج -من أول كتاب الصلاة إلى نهاية باب صلاة النفل- (ص: 697).
([7]) عجالة المحتاج (1/ 287).
([8]) ذكره المروزي في قيام رمضان كما في مختصره للمقريزي (ص: 42).
([9]) نقله اللخمي في التبصرة (2/ 821)، ونقله كثير من المالكية كخليل بن إسحاق في شرحه لمختصر ابن الحاجب الفقهي المسمى التوضيح (2/ 98)، وشراح الرسالة كزرُّوق (1/ 468).
([10]) كما في الابتهاج للسبكي، وقد زعم بعض المعاصرين انفراد الجوري بهذا النقل عن الإمام مالك، وضعّفوا نقله عنه بأنه شافعيّ لا مالكي، وبأن بينه وبين مالك مفاوز، وأنت ترى أن هذا النص للإمام مالك موجود في كتب المالكية، ولم ينفرد به الجُورِي. وانظر: التوضيح في صلاتي التراويح والتسابيح (ص: 97)، والآراء الفقهية المعاصرة المحكوم عليها بالشذوذ في العبادات (1/ 605).
([11]) في المراحل التي مر بها عمل الناس في صلاة التراويح حتى وصلت هذا العدد يقول ابن حبيب كما نقله عنه ابن أبي زيد في النوادر والزيادات (1/ 551-552): “ورغبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قيامِ رمضانَ من غير أن يأمر بعزيمة، فقام الناس وحدانا، منهم في بيته، ومنهم في المسجد، فمات عليه الصلاة والسلام على ذلك، وفي أيام أبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم رأى عمر أن يجمعهم على إمام، فأمر أبيًّا وتميمًا الداري أن يصليا بهم إحدى عشرة ركعة بالوتر، وكانوا يقرؤون بالمائتين، فيثقل عليهم، فخفف في القيام وزيد في الركوع. وكانوا يقومون بثلاثة وعشرين ركعة بالوتر، وكان يقرأ بالبقرة في ثمان ركعات، وربما قرأها في اثني عشرة ركعة. وقيل: كان يقرأ من ثلاثين آية إلى عشرين، إلى يوم الحرة، فثقل عليهم طول القيام، فنقصوا من القراءة وزيد في الركوع، فجعل ستة وثلاثين ركعة والوتر بثلاث، فمضى الأمر على ذلك”.
([12]) ذكره المروزي في قيام رمضان كما في مختصره للمقريزي (ص: 45)، وانظر: بحر المذهب للروياني (2/ 232).
([13]) مسائل إسحاق الكوسج (2/ 755-757)، ونقله المروزي في قيام رمضان كما في مختصره للمقريزي (ص: 45).
([14]) نقله السبكي في الابتهاج.
([15]) الرسالة (ص: 62).
([16]) ظَنَّ ذلك المخالف أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يقول بمشروعية العشرين ركعة في التراويح، وأقسم بالله أنه لو قال بذلك لتابعه السلفيون، وهذا النصّ يدمَغُه.
([17]) مجموع الفتاوى (22/ 272).
([18]) الفروع (2/ 372)، ونقله المرداوي في الإنصاف (4/ 164-165).
([19]) الابتهاج من أول كتاب الصلاة إلى نهاية باب صلاة النفل (ص: 697).
([20]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (4/ 363).
([21]) مجموع مقالات وفتاوى ابن باز (15/ 18).
([22]) النكت والفوائد السنية على مُشكل المحرر (1/ 160). لكن قال الحجاوي في الإقناع: “التراويح ‌عشرون ‌ركعة في رمضان… ولا ينقص منها، ولا بأس بالزيادة”. واستدل البهوتي في كشاف القناع (3/ 53) بفعل عمر رضي الله عنه، وقال: “هذا مظنة الشهرة بحضرة الصّحابة، فكان إجماعًا”. وقال الشيخ القعيمي في الحواشي السابغات (ص: 118): “والظاهر من نص الإقناع: لم يفعل سنةَ التراويح مَنْ صلى أقل من عشرين، والله أعلم”.
([23]) الشرح الممتع (4/ 54-55).